وأنا مادامت لي الحياة باذلاً جَهْدِي

Publié le par Mohammed Nadhir

ظللت أقطع الغرفة جيئة وذهابا ...لا أدري كيف أتصرف فيما صارت إليه الأحوال ...

إنَّ الحاكم بأمر الله الفاطمي يسفك الدماء بنفس بساطة عطاؤه للمال .... لا أستطيع أنْ أُصدِّق أنَّه راض عنِّى !!! 
أتصور أنَّ هذا المنصب الذي أولاني إيَّاه فخ تم نصبه بعناية حتى لا آخذ حذري منه ثم يأخذني بعد ذلك أَخْذَ عزيز مقتدر .... كيف أخرج من الورطة؟؟؟؟ إن فكرتي بإنشاء سد على النيل يحفظ مياهه صيفاً وشتاء ... ويوزعها على مصر بكاملها فلا تغرق قرى لتزدهر أخرى ... فكرة منطقية ولكن هذا الانحدار الشديد للمجرى عند جنادل أسوان لم يكن في حسابي .... لا أصدق أنَّه تقبل اعتذاري عن إتمام المشروع بكل هذه البساطة والرضا ...وماذا عن المال الذي منحني إيَّاه ؟؟والدار ...ثم هذا المنصب وهذا الراتب !!!!! 
جلس الرجل أخيرا على مقعد يريح قدميه اللواتي أعياهما الدوران في الغرفة .... لم يكن (الحسن بن الهيثم) مبالغاً في قلقه وخوفه ...فلقد أرسل إليه الحاكم بأمر الله أموالاً وهدايا ودعاه لزيارة مصر حين سمع عن مشروعه الذي لخصته هذه العبارة : لو كنت بمصر لعملت بنيلها عملاً يحصل النفع في كل حالاته من زيادة او نقصان 
ظلت عَيْنَا (ابن الهيثم) تدور فى الغرفة حوله وقد أمسك رأسه بيديه .... وبعد مرور ساعات طويلة خرجت من صدره زفرة طويلة حملت كل قلقه وخوفه : يا إلهى أَعَلَّى أنْ أخرج من هذا المأزق ... إنَّه حاكم مجنون ولا يمكن التنبؤ برد فعله 
وحين أسند الحسن رأسه إلي ظهر مقعده لمعت الفكرة فكرة أمامه ...... وقد كانت بسيطة وآمنة لدرجة أنَّه ضحك بصوت عال من الفرح ...... واعتدل (ابن الهيثم) في جِلْسَته وقال لنفسه بين ضحكه ..إذا كان هو مجنوناً ...فأنا أكثر منه جنوناً

كانت هذه هي الفكرة التي واتته لينجو من رعونة تصرفات الحاكم بأمر الله فادعى الجنون لدرجة أنَّ الرجل عَيَّن له خادماً وحدد إقامته في داره ..... وكانت هذه فرصة للعالم العبقري أنْ يواصل أبحاثه في هدوء .... ويستمر في دراساته في ميادين العلوم المتنوعة.. 
هذا الرجل الذي وُلِدَ في البصرة ولا يعرف أحد عن طفولته أو شبابه الكثير إلا ظهوره في الشام رجلاً عالماً ثم ارتحاله إلي مصر وتفضيله البقاء فيها .... 
درس (الحسن بن الهيثم) وأَلَّف في كل المجالات ولكن أشهرها على الإطلاق كان (كتاب النظائر) 
وله يرجع الفضل في (الرسم التشريحي) للعين وكذلك تعديل المعلومات السابقة عن سير الشعاع من العين للأشياء مما ينتج عنه الرؤية إلي أن الشعاع يسير من الجسم المرئي إلي العين وفى خطوط مستقيمة ... 
ظل (الحسن بن الهيثم) مُدَّعِيَاً البله إلي وفاة الحاكم بأمر الله فعاد إليه رشده وأقام في دار إلي جوار الجامع الأزهر واستكمل أبحاثه ودراساته في الفيزياء , حساب المثلثات ,خواص الأشعة , والعين والإبصار. ولقد كان الصندوق المظلم الذي ابتكره لإثبات نظرياته حول سير الآشعة هو الخطوة الأولى لإنتاج الكاميرات باختلاف مستوياتها التقنية .... 

ويكفي أنْ نسمع قوله هذا حتى نعرف أي طراز من الرجال كان : وأنا مادامت لي الحياة باذلاً جهدى ومستفرغاً قوتي في مثل ذلك مُتَوخيا منه أموراً ثلاثة : أحدهما إفادة مَنْ يطلب الحق ويؤثره في حياتي وبعد مماتي والثاني أنِّي جعلت ذلك ارتياضا (ترويضا) لي بهذه الأمور في إثبات ما تَصوَّره وأتقنه فكري مِنْ تلك العلوم والثالث أنَّي صيَّرته ذخيرة وعدة لزمان الشيخوخة وأوان الْهِرَم

هذه هي عظمة الرجل وروعة العَالِم الذي نذر ذكاءه وفكره وعمله مِنْ أجل إفادة من يطلب الإفادة وذخيرة له في شيخوخته .... هذه هي صفات الرجال الذين صنعوا الحضارة وخلَّفوا للأمة مجداً
 
Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article