الحج دروس وعبر

Publié le par Mohammed Nadhir Salem


  الحج ركن من الأركان العظيمة التي يُقام بها الإسلام وتتضح معالمه، وهو من الشعائر التي يقف أمامها المسلم يتأملها طويلاً ويتفكر فيها كثيرًا.

والحج مستودع عظيم من الحكم البليغة واللطائف النفيسة التي تحتاجها الأمة الإسلامية جيلاً بعد جيل.

وهذه دعوة كي نُعيد قراءة بعض معاني الحج وحكمه.

الحج دعوةٌ ربانيةٌ.. ونداءٌ مقدسٌ.

نعم دعوة من الله الجليل لرهط زكي مختار، نطق بها النبيون بداية من أبيهم الخليل إبراهيم عليه السلام إذ أذَّن في الناس بالحج وجدد بها خاتم النبيين محمد(1) صلى الله عليه وسلم الكون واستجاب لها في كل عام من أرادهم الله تعالى واختارهم.

 

فليعقل الحاج هذا الأمر، ويعلم أنه يسير في ركب مبارك، يقدمهم المصطفون الأخيار، وأن سيره جهاد لا شوكة فيه ونفقة مقبولة وثوابه الجنة.

الحجُّ تأهيلٌ للأمة

يتعلم المسلم وهو يتدبر شعائر الحج ومناسكه أن يُلبي نداء الله تعالى، فها هو يقول مع الحجيج: ((لبيك اللهم لبيك)) وهذه التلبية شعار الحجيج ونشيدهم تعني الإجابة الكاملة لأمر الله والانقياد التام لشرعه، والخضوع والاستسلام لأوامره.

إن أمة الإسلام في حاجة إلى أن تعي هذه التلبية، وهي مدعوة اليوم كي تُلبي وتُلبي كما لبت نداء الحج والعمرة فتُلبي نداء الصلاة والزكاة فلا يبقي مسلم لا يُصلّي، ولا غني ممتنع عن أداء الزكاة، وتُلبي نداء النصرة وإغاثة المكروب وإعانة المظلوم فلا يبقي في ديار الإسلام ظلم ولا ظالم وتطهر الأرض من ذلك. وتُلبي نداء الثكالى واليتامى والأرامل في أفغانستان وكشمير وفلسطين والعراق فتهب الأمة كلها تقول: (نُصرت أمة الإسلام) تقتدي في ذلك بالخليفة المعتصم يوم استغاثت به مسلمة تعرضت للأذى فصرخت (وا معتصماه)، فلما علم بذلك جيّش لها جيشًا عظيمًا لتأديب الروم ولسان حاله يقول: (نُصرت يا أخت الإسلام).

الحجُّ يغرسُ في النفوس الرحمة ويشيعُ في النفس السلام.

يخطو الحجيج إلى الرحاب المقدسة؛ راجين رحمة الله تعالى أملين مغفرته، ومن ثم كان الحج توبة عظيمة يغتسل بها الحاج من جميع ذنوبه، ويفر بها إلى الله تعالى في ندم وأسف ممزوجين بالحب والشوق إلى لقاء الله تعالى، ويطوف الحجاج خاشعين حول البيت ويسعون متبتلين بين الصفا والمروة ويقفون على عرفات راغبين وراجين عفو الله تعالى، متشبثين برحمة الله، فإذا انقضى الحج وُلد الإنسان من جديد، تغيب شمس يوم عرفة بذنوب الحجيج ويرجع الحاج وقد غُفر له ذنبه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" (حديث متفقٌ عليه).

 

وفي رواية: "من حج إلى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه".

ويُحسن الحجيج الظن بالله تعالى ويملأ قلوبهم يقين أن الله قد غفر لهم، ويأثم الحاج إذا أفاض من عرفات ونفسه يُساورها خاطر من الشك في أن الله قد غفر له.

ما أجمل أن يجد الإنسان هذه الرحمة تمد أكنافًا حوله!، وما أروع أن يكون للإنسان موئل يسكن إليه إذا آذاه الذنب وأثقلته الخطيئة.. موئل لا يحتكره تاجر يبيع صكوك المغفرة أو يتاجر بالمقدسات، ولكن إله عادل رحيم يمد يده إلى كل مُقبل عليه، وما أنضر وأزكي أمة توفد إلى بيت الله كل عام هذا العدد الضخم من أبنائها ليعودوا إليها أطهارًا أبرارًا، قد وصلوا ما بينهم وبين ربهم ، وأقبلوا على مجتمعهم إقبالاً جديدًا يزكي فيه مشاعر الطهر والرحمة.

 

وإن الحج حين يُرسي هذه الركيزة النفسية في مشاعر الناس، يُفجر بذلك أصدق ينبوع لعاطفة السلام، ويُقيم أيقظ حارس على ركائزه جميعًا، فإن الناس لم يضلوا خلال العصور على خبل في العقل أو عوز في الرأي، وها قد رأينا مؤتمراتهم ومواثيقهم، وإنما أضلهم- على علم- خبل في الضمير وعوز في المشاعر النبيلة، وطغيان الأهواء من كل نوع على الوازع الإلهي العميق في النفس، الوازع الذي يُمسكها من جذورها على معنى الحق، ويؤجج فيها النار إذا حادت عن طريقه، والذي إن غاب لم تقم مقامه قوى الأرض مجتمعة، واستتبع غيابه غلبة الهوى وتفلت الزمام وصدق الله العظيم حين قال: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)) (سورة الكهف).

 

الحج يجمع المسلمين ويعلن راية الوحدة الإسلامية

صدق من قال إن الحج مؤتمر المسلمين الأكبر، فلقد شرع الله تعالى الحج وجعله ركنًا من أركان الدين؛ وذلك لغاية عُليا وأهداف نبيلة فهو ((يجمع المسلمين على اختلاف ألوانهم، وتنائي ديارهم في مؤتمر أكبر، فيه يتعارفون فتقوى الروابط، وفيه يتشاورون فتلتئم صفوفهم وتتوحد كلمتهم ويكونوا قوة يهابها العدو ويُقدّرها الصديق)).

 

فالحج يجمع قلوب المسلمين في ضيافة الرحمن، وإذا كان اجتماع المسلمين في صلاتهم على قبلة واحدة رمزًا للوحدة الخالدة وإشعارًا لأهل الإسلام بأنهم أمة واحدة وربها واحد وقائدها واحد وكتابها واحد وطريقها واحد، فإن الأمر يقوى ويشتد في الحج؛ حيث يكون الاجتماع الحسي لا الاجتماع الرمزي، وتتلاقي أبدان المسلمين ووجدانهم بعد التلاقي بمجرد الوجدان في الصلاة.

 

إنها الأخوة الإسلامية تتجلى بوضوح في هذه الوفود المباركة في الأراضي المقدسة، لو نظرت إليهم وهو مجتمعون في ساحة الرحمة فوق عرفات، لو أطّلعت عليهم وهو يطوفون بالبيت الحرام سبعة أشواط، لو أبصرتهم وهم في المسعى بين الصفا والمروة يُرددون الدعوات، لو فعلت ذلك لأدركت- بحق- أن المسلمين أمة واحدة، مهما تفرقت بهم الأهواء، وتعالت بينهم الحواجز، وأُقيمت بينهم الحدود، مهما اختلفت أنظمة الحكم في البلدان، ومهما تناءت الديار ستظل حقيقة ساطعة أن المسلمين أمة واحدة: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52)) (المؤمنون).

 

وما أجمل قول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يُرسى قواعد الإسلام ومرتكزاته العليا في خطبة الوداع فيقول صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى".

 

إن فريضة الحج تُذكر كل مسلم ومسلمة بواجبات الأخوة الإسلامية، وتُنعش الأمل في نفوس المسلمين أن يكونوا كما أراد الله تعالى منهم: ((إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10))) (الحجرات).

 

الحج إعلانٌ رسمي للحرب ضد الشيطان وأعوانه

تأملت تلك اللحظات الفريدة من جنسها، الغريبة في نوعها، حين يقوم الحاج برجم إبليس على مدار أربعة أيام أو ثلاثة، إن مشهد رمي الجمرات لا يخلو من إشارة إلى أن المسلم قد عرف طريق ربه وعاهده أن يكون له عبدًا، وفي كل أمر له مُلبيًا وفي كل نداء عليه مجيبًا، وبعد أن يفيض الحجيج من عرفات يتفرغون أيام منى لرمي الجمرات أربعة أيام- أو ثلاثة لمن تعجل- لا يُشغلهم شيء.

 

إن الشيطان عدو الله ورسله وعدو المسلمين، فلا بد أن يُعلن المسلمون العداء له، وأن يُعلنوا عليه الحرب؛ فهو رمز الغواية ورمز الشر.

 

وفي تلك اللحظات تثور في النفس المؤمنة ذكريات تاريخية عطرة، نستعيد صورة أبى الأنبياء الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو يرجم إبليس في نفس المكان الذي يقف فيه الحجيج اليوم، ليؤكدوا أن مسيرة الحق والخير من لدن إبراهيم إلى محمد عليهما الصلاة والسلام ماضية في طريقها إلى الله تعالى، تبذر الخير في كل مكان وتنشر الأمن والسلام، وتُعلن الحرب على إبليس وشره وأعوانه.

 

إن رمي الجمرات شعيرة ومنسك من مناسك الحج تتجلى فيه معاني مجاهدة الشيطان وأعوانه، فإذا عاد الحجيج إلى ديارهم عادوا بقلوب مؤمنة تُخاصم الشيطان وتفارق الشر وتنحاز للحق وتُحالف الخير فعلاً وأمرًا.

 

إن أمة الإسلام في حرب مستمرة ضد الشيطان والشر وأعوانهما فهل فهم المسلمون ذلك؟

هل عملوا به؟

دعاؤنا لله تعالى أن يحفظ أمتنا ويديم عليها وحدتها وعزتها، وأن يصرف عنها البلاءات والشرور والأسقام، وأن يتقبل من الأمة سعيها وعبادتها.

 

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد معلم الناس الخير.

 

بقلم :  أسامة جادو

Publié dans Actualités islamiques

Pour être informé des derniers articles, inscrivez vous :
Commenter cet article